
تمتلك كوريا تاريخًا طويلًا وعريقًا، ولكن أحداث التاريخ الحديث هي العوامل الرئيسية في تشكيل الوعي الكوري الحالي. وأهم حدثين في تاريخ كوريا الحديث هما التحرر من الاحتلال والحرب الكورية، فكلاهما ترك جراحًا لم تندمل حتى الآن. وبمناسبة اليوم الوطني للتراث الموافق ٩ ديسمبر، سيأخذكم هذا المقال في رحلة عبر الذاكرة الكورية من خلال تجربتي.
كل عام تكافئ وزارة الثقافة الكورية جميع الفائزين في برنامج كي ويف للترويج الثقافي برحلة مجانية إلى كوريا لاستكشافها عن قرب. وقد كنتُ سعيدة الحظ بكوني أحد الفائزين في برنامج المراسلين الفخريين لهذا العام وانضمامي لتلك الجولة. يغطي برنامج الرحلة جميع الجوانب الثقافية والتاريخية للبلاد ويوازن بين المتعة والمعرفة، وبالطبع كان للجولات التاريخية نصيب كبير من فعاليات الرحلة.
خُصِّص يومان في الرحلة من أجل التعرف على الحدثين، أولهما كان بزيارتنا لمدينة باجو في شمال البلاد. باجو هي مدينة شهيرة بطبيعتها الخلابة والأطعمة المتميزة التي تنفرد بها، ولكنها تحمل معنى أكبر من ذلك للشعب الكوري، فقد شهدت مدينة باجو أحداثًا تاريخية عديدة خلال فترة الحرب الكورية. وثانيهما كان يوم ختام رحلتنا بجولة لإحياء الذكرى الثمانين للتحرر من الاحتلال، شملت زيارة سجن سودومون، معرض التاريخ، بوابة الاستقلال، وبيت جيونغ كيو-جانغ. كانت تلك الجولات مفيدة ومؤثرة للغاية على المستوى التاريخي والإنساني، وسأحاول مشاركتكم أبرز ما تعلمناه بها حسب التسلسل الزمني للأحداث.

كان اختيار جولة إحياء ذكرى التحرر من الاحتلال لتكون خاتمة الرحلة موفقًا، حيث إنها كانت جولة ثقيلة ومحملة بمشاعر حزن وآلام عانتها الأمة الكورية لتستعيد كيانها، وهي مشاعر مشتركة مع دول كثيرة عانت من الصعاب نفسها.
في البداية، قمنا بزيارة سجن سودومون، وفي الطريق حاولت مشرفة الرحلة ومرشدتنا إعطاء مقدمة مبسطة عن فترة الاحتلال الياباني.
استمر الاحتلال في الفترة من ١٩١٠ حتى ١٩٤٥، وفي تلك الأعوام الطويلة حاول الاحتلال جاهدًا محو هوية البلاد بشكل منهجي لفرض سيطرته التامة. ألغى جميع المؤسسات الوطنية، وأجبر الشعب على استبدال لغتهم باللغة اليابانية وحتى تبديل أسمائهم، وفرض عقوبات مغلظة على أي معارض أو أي شخص حاول الحفاظ على هويته.
ولكن رغم تلك القوانين المجحفة استمر نضال الشعب الكوري ومحاولاتهم للتحرر حتى حصلوا عليه عام ١٩٤٥ بعد خسارة اليابان في الحرب العالمية الثانية واستسلامها، الذي تلاه حصول كوريا على استقلالها مرة أخرى.
أما سجن سودومون فهو مزار مهم يحمل ذكريات نضال الشعب الكوري الذي استمر طويلًا. نشأ سجن سودومون عام ١٩٠٨ قبل إعلان الاحتلال بشكل رسمي، ولكن كانت بالفعل كوريا تقع تحت السيطرة اليابانية في ذلك الحين.

حاليًا السجن هو جزء من حديقة ومتحف رسمي يهدف إلى تذكير الزوار بالمحن التي تعرض لها نزلاؤه في الماضي عن طريق أخذهم في رحلة واقعية بين غرف التحقيق، غرف الاحتجاز والحبس الانفرادي، مبنى الإعدام، وغيرها من مباني السجن.
وصفت لنا المرشدة جميع الأهوال التي تعرض لها نزلاء السجن وافتقادهم لأبسط الحقوق الإنسانية، فحوائط ذلك السجن تحمل معها ذكريات أرواح أزهقت وعُذبت دون ذنب سوى رغبتهم في الحرية. وهناك معرض كامل مخصص لصور السجناء وأسمائهم للتعرف عليهم والتذكر أنهم ليسوا مجرد عدد، بل بشر تستحق ذكراهم الخلود.

وحيث إن العديد من الشعوب تتشارك في المعاناة مع الاحتلال، كانت الحكايات والتفاصيل التي تعرفنا عليها ثقيلة على النفس، خصوصًا عندما اصطحبتنا المرشدة لمبنى الإعدام وحديثها عن عمليات الإعدام الجماعي التي كان المساجين يتعرضون لها دون وجه حق. لم يستطع جميع المشاركين في الجولة، بما فيهم المرشدة نفسها، كبت مشاعرهم ومنع أنفسهم من البكاء، فشجعتنا المرشدة على تفريغ مشاعرنا والتعبير عنها ورثاء شهداء أوطاننا جميعًا.
وختام جولتنا في السجن كان بزيارتنا لشجرة الحوران الباكية. زُرعت تلك الشجرة عام ١٩٢٣ عندما بُني مبنى الإعدام، وحسب الروايات المتداولة كان المعتقلون يتشبثون بها قبل اقتيادهم لغرفة الإعدام، كانوا يحاولون التشبث بها لا إراديًا لأنها رمز للحياة التي ستُسلب منهم ظلمًا. ولذلك اعتبرت تلك الشجرة رمزًا للمقاومة، وأصبحت مزارًا لتخليد تلك اللحظات في الذاكرة الوطنية.
وبالرغم من سقوط الشجرة بسبب عوامل طبيعية منذ فترة، إلا أنها نهضت من جذورها من جديد وما زالت تنمو.

بعدها مررنا ببوابة الاستقلال التي تعتبر رمزًا لمقاومة السيطرة اليابانية والصينية من قبلها، ولها معنى خاص عند الشعب الكوري. ثم ذهبنا بعدها لزيارة منزل جيونغ كيو-كانغ، وهو مرتبط بشخصية مهمة في التاريخ الكوري وهو "كيم غو" الذي يعتبر ضمن أهم القادة الكوريين، وكان رئيسًا للحكومة الكورية المؤقتة في المنفى خلال فترة الاحتلال.
وقد تعرض ذلك القائد للخيانة والاغتيال على يد ضابط في الشرطة العسكرية عام ١٩٤٩ قبل أن يشهد نتائج جهده ويتحقق حلمه في ازدهار البلاد وتعويض ما خسرته خلال الاحتلال.
ولكن بالرغم من ذلك ظلت ذكراه وكلماته خالدة، أبرزها قوله:
"أرغب بأن يصبح وطننا أجمل وطن في العالم. أنا لا أطمح لأن نكون الأغنى أو الأقوى، فمن الكافي أن تكون ثروتنا بالقدر الذي يجعل حياتنا كريمة وقوتنا بالقدر الذي يعيننا على صد اعتداءات الغير. الشيء الوحيد الذي أرغب بقدر لا نهائي هو القوة الثقافية المتطورة، فقوة الثقافة قادرة على جعلنا سعداء وقادرين على منح السعادة للغير."
وعبرت مرشدتنا عن مدى السعادة التي كان ليشعر بها إن تواجد حتى تلك اللحظة ليرى التطور الذي تشهده البلاد وسيرهم على الطريق الذي نهجه.
ضم المنزل معرضًا لمقتنيات كيم غو ووثائق تاريخية وصورًا تشرح دوره في المقاومة، بالإضافة إلى أماكن الاجتماعات السرية التي كانت تقام لدعم الاستقلال. وفي نهاية زيارتنا شاهدنا عرضًا لمشهد تمثيلي يحاكي عملية اغتيال القائد كيم غو.


وبذلك اختتمت جولتنا التاريخية يومها وذهبنا لاستكمال باقي برنامج اليوم، ولم يكن هدف تلك الزيارات إثقالنا بالهموم، ولكن التعرف على حقيقة قصة الشعب الكوري وثقافة الصمود والمثابرة التي لطالما آمن بها. فذلك هو الهدف الأساسي لتلك الرحلة ولجميع الجهود التي تبذلها كوريا في الترويج لنفسها، وهو تعريف العالم بحقيقة كوريا وجوهر ثقافتها.
وبالعودة سريعًا لرحلتنا إلى مدينة باجو في شمال البلاد، التي زرناها في اليوم السادس من رحلتنا، سوف أقدم لكم فترة أخرى مهمة في التاريخ وهي الحرب الكورية.
لم تنتهِ معاناة كوريا بمجرد حصولها على الاستقلال، فالانقسامات بين الشعب نتيجة لغياب الوعي الوطني لسنوات طويلة أدت إلى اندلاع الحرب بين أفراد الوطن. اندلعت الحرب عام ١٩٥٠ وتدخلت بها العديد من الأطراف الأجنبية مما صعّد من حدة الانقسام، واستمرت الحرب لمدة ثلاث سنوات وزُهقت بها أرواح عديدة وتفرقت العائلات والمتحابون بسبب الخلافات السياسية. وما زالت جراح تلك الحرب لم تتداوَ، حيث أوضحت لنا المرشدة أن التوتر العسكري ما زال مستمرًا، وهو سبب إنشاء المنطقة منزوعة السلاح (دي إم زي) التي قمنا بزيارتها، وقد أُنشئت بعد الهدنة عام ١٩٥٣.
خلال جولتنا هناك قمنا بزيارة معرض لبعض الوثائق من تلك الفترة، كما قمنا بتجربة صناعة سلسلة كالسلاسل التي كان جنود الجيش الكوري يرتدونها كبطاقة هوية لهم لتسهيل التعرف عليهم في حالة تعرضهم لأي أذى. كما قمنا بتجربة ارتداء ملابس الجيش والتقطنا صورًا عديدة هناك، فتتميز تلك المنطقة بطبيعتها الخلابة.


شملت جولتنا في باجو عدة محطات تعرفنا فيها على جزء مهم من النسيج الثقافي الكوري والجراح التي لم تلتئم بعد. كما تعرفنا على مدينة جميلة تصلح لأن تكون رمزًا للسلام بطبيعتها وأجوائها الهادئة، وهو ما تحاول البلاد جاهدَةً على تحقيقه.

ختامًا، لا توجد دولة يمكنها التقدم دون دراسة ماضيها بشكل واعٍ والاستفادة من جميع الدروس والصعاب التي مرت بها حتى لا تتكرر تلك المآسي مرة أخرى. وقد كانت جولة كي ويف بمثابة نافذة لنا كمراسلين فخريين ومحبين للثقافة الكورية على الحقائق التي شكلت الوعي الحالي للشعب الكوري والتي تدفعه للاستمرار والمثابرة.
كي ووردز:
جولة كي ويف، الثقافة الكورية، التاريخ الكوري، الاحتلال الياباني، الحرب الكورية، سجن سودومون، باجو، كوريا نت، جمهورية كوريا
How about this article?
- Like0
- Support0
- Amazing0
- Sad0
- Curious0
- Insightful0