
تهتم كوريا بإحياء الثقافة ولفت النظر إليها ولجوهرها خلال مناسبات عديدة طوال العام، فلا يوجد يوم واحد فقط للاحتفاء بها، بل هي جهود مستمرة بلا كلل. ويوم ٢٦ نوفمبر من هذا الشهر هو مناسبة وطنية لتحفيز المواطنين على المشاركة الفعالة في النشاط الفني والثقافي. وقد لمست اهتمام الأفراد بالثقافة وحب الأدب خلال وجودي هناك في بداية الشهر ضمن جولة 'كي ويف' لأفضل المراسلين الفخريين. وفي هذا المقال سآخذكم في جولة عبر المشهد الأدبي الكوري من خلال تجربتي القصيرة هناك.
إذا كنت مواطنًا أو مقيمًا في كوريا ستستطيع لمس جهود المؤسسات والأفراد في نشر القراءة وجعلها جزءًا مهمًا من الحياة اليومية، ليس عن طريق الخطب أو الندوات الثقافية حتى وإن كانت مهمة أحيانًا، بل عبر توفير فرص للشباب للقراءة والكتابة والتعبير عن أصواتهم بسهولة.
وذلك ربما يكون أمرًا معتادًا في الدول التي تتمتع برخاء اقتصادي وفائض دخل كبير أو الدول ذات السوق الأدبي التجاري الضخم مثل الولايات المتحدة وغيرها. ولكن اهتمام وسعي دولة ما زالت في مرحلة التطور للاهتمام بالأدب والفن وبالأصوات الشبابية بهذا الشكل، هو تجربة ملفتة للنظر ودليل أنه رغم صعوبة الحياة ومشقة مهام العمل، يظل الفن والثقافة أساسين يجب الاهتمام بهما للارتقاء.
قد تكون القراءة فعلًا ثقيلًا أو مملًا لدى البعض، وبدلا من محاولة تغيير تلك النظرة بالوعظ المباشر، من الأفضل جعل القراءة فعلًا ممتعًا والذهاب للمكتبة نزهة محببة كما يحدث في سلسلة مكتبات ستارفيلد. فتتميز تلك المكتبة بتصميمها الأنيق والمميز الذي يجذب السياح والمواطنين من مختلف الأماكن لزيارتها وإمضاء الوقت هناك والتقاط الصور ومقاطع الفيديو. فحتى لو لم يكن هدف جميع روادها الرئيسي هو القراءة، فستشجع المهتم حقًا بالقراءة للقدوم وقضاء وقت ممتع، وربما تفتح أعين الآخرين على بعض العناوين وعلى جمال فعل القراءة. توجد عدة فروع لمكتبات ستارفيلد، وقد كانت زيارة فرع سوون ضمن برنامج رحلتنا الرئيسي، ومن الجيد أن الاهتمام لا يقع على العاصمة سيول فحسب.
رغم الزحام في المكتبة واختلاف نية الزوار بين من يرغب في التقاط الصور ومقاطع الفيديو الرائجة، من يرغب في الاسترخاء من التجول، ومن يرغب في القراءة حقًا، كان هناك تناغم بين الجميع ومساحة تسمح لمن يرغب في الهدوء لتشغيل سماعاته ببساطة والدخول في عالمه الخاص مع كتابه المفضل. وقد كان إحساس جلوسي للقراءة هناك وسماعي للموسيقى المفضلة لدي من أبرز لحظات الرحلة.


ومن اللافت توفر سلاسل مكتبات كبيرة في معظم المدن، حيث تحتوي على إصدارات مختلف دور النشر وجميع الفئات الأدبية دون الحاجة إلى البحث والعناء لاقتناء كتب تناسب ذائقتك. من أشهر السلاسل هناك، هي سلسلة مكتبات كيوبو، وهي معروفة لأي محب للأدب الكوري، لكن ذهابي لأحد فروعها في الواقع كان تجربة مختلفة ورائعة.
ظننت في البداية أنني سألقي نظرة وأبحث عن كتاب محدد كنت أرغب في اقتنائه، لكنني غصت داخل رفوف الكتب هناك وسرقني الوقت دون الاستقرار على كتاب واحد بل مكتبة كاملة لذلك لم تكفني زيارة واحدة للمكتبة، فأمضيت الزيارة الأولى في التجول بين رفوف الكتب بمختلف نوعياتها والتمتع برؤية النسخ الأصلية من كتبي المفضلة لأول مرة، واستكشاف بعض الأصوات الأدبية في كوريا سريعًا عبر تصفح الكتب التي تلفت نظري.
من أهم النقاط التي لفتت نظري هي الاحتفاء بالأعمال الشبابية والأقلام الواعدة التي حققت النجاح في المسابقات الأدبية. فكثيرًا ما تكون المسابقات الأدبية هي مجرد روتين ويقتصر المهتمون بها على العاملين في المجال الأدبي نفسه، ولكن مساحة العرض المتوفرة للكتب الفائزة للشباب هناك كانت شبه مماثلة للكتاب أصحاب الشهرة العالمية أو المبيعات العالية.
بالإضافة إلى وفرة الكتب المترجمة من الأدب العالمي، فالاطّلاع على تجارب الغير والاستفادة من تجارب الآخرين عامل مهم في تكوين الوعي.


في زيارتي الثانية حاولت وضع ميزانية محددة لنفسي وتحديد نوعيات الكتب التي أريد الحصول عليها دون تقييد نفسي بعناوين محددة، وفيما يلي سأشارككم بعض الأعمال المعاصرة التي اقتنيتها لنتعرف على أصوات جديدة وعلى جوانب مختلفة لكتاب عظماء.

الأديبة هان كانغ بالطبع غنية عن التعريف، خاصة بعد حصولها على جائزة نوبل للأدب كأول امرأة كورية وآسيوية تحقق هذا الإنجاز. ولكن كثيرًا ما يظن القراء العالميون أن أعمالها ثقيلة على النفس وذات أجواء قاتمة مثل رواية "النباتية" أو تاريخية متشابكة الأحداث مثل 'أفعال بشرية' وهما أشهر أعمالها عالميًا. وبالطبع تلك الأعمال تستحق القراءة العديد من المرات ولكن عالم هان كانغ أشمل وأوسع من ذلك ومناسب لأي قارئ باختلاف ذائقته. فهان كانغ لديها أعمال شعرية وحتى قصص للأطفال يمكن البدأ بالاطّلاع عليها. وقد قررت اقتناء قصتها الخيالية 'اسمي هو زهرة الشمس' حيث أني قرأت معظمها خلال تواجدي في مكتبة ستارفيلد ووجدتها سهلة القراءة ومحببة للنفس وتحمل طابع هان كانغ الفريد الذي يميز أعمالها بمختلف تصنيفاتها. كما يستحق ديوانها الشعري 'المساء داخل الصندوق' القراءة بتأنٍ، حيث أن هان كانغ بدأت مسيرتها كشاعرة في الأساس والتأقلم على أسلوبها الشعري هو مفتاح فهم أعمالها الأخرى.
بالإضافة إلى ذلك، حرصت على استكشاف أصوات أدبية جديدة لم أكن أعرفها، فلفتت نظري مجموعة قصصية تدعى 'حكايات التفاحة ورينغو' لكاتبة شابة تدعى إي هي جو. موضوع الكتاب الرئيسي هو العلاقة غير المستقرة بين أختين حيث يُفرض على الكبرى دعم أسرتها، وتعاني الصغيره من تخبطات في حياتها، فتعكس علاقتهما الواقع الاجتماعي في كوريا.
وقد حصلت تلك المجموعة القصصية على جائزة لي هيو سوك الأدبية هذا العام، وهي مسابقة مهمة لكتاب القصص القصيرة، بدأت عام ١٩٧٧ لتخليد اسم هذا الكاتب الكوري المهم الذي اشتهر بقصصه التي تعبر عن الواقع اليومي والأوضاع الاجتماعية خلال فترة الاستعمار.
ومن أهم رغباتي كانت اقتناء ديوان شعري لكاتبة كورية لم أكن أعرفها من قبل، حيث أنه كلما اكتشفت عالم شاعرة كورية جديدة لم أندم على ذلك نهائيًا، فالشعر الكوري، وخاصة الأقلام النسائية، متفرد للغاية. ووقع اختياري على ديوان شعري يدعى 'اللا غامض' للشاعرة بايك أون سون وهو ديوان صادر حديثًا في بدايات شهر نوفمبر، وأنا متحمسة لاستكشافه.
أما قسم الكتب الأجنبية، فيتنوع بين الكتب المترجمة في جميع المجلات والكتب المتوفرة بنسخها الأصلية. فحرصت على الحصول على كتاب في مجال علم النفس وكنت أبحث عن كتاب متعلق بموضوع محدد ووجدته بسهولة، ووجدت أيضا أعمالًا أدبية عالمية في قسم العروض تستحق القراءة، وكان من حسن حظي وجود رواية لأحد كتابي المفضلين ضمنهم.
كما من المفيد لمن يتعلم اللغة الكورية أن يحصل على كتب مزدوجة اللغة، تتيح لك تصفح النص الكوري والإنجليزي في آن واحد. وقد وقع اختياري على الرواية الشهيرة 'مزرعة الحيوان' لجورج أورويل، وبينما سيستعملها أغلب المشترين من الكوريين لتعلم الإنجليزية، أنا سعيدة بالحصول عليها لتعلم الكورية.


في جميع خطواتي حاوطتني الكتب، في المقاهي توجد أركان مخصصة للكتب، وتوجد سلاسل تتيح شراء الكتب المستعملة أيضًا مثل مكتبات علاء الدين، فتعرضها بطريقة منظمة وبحالة جيدة وفي أماكن حيوية مثل محطات المترو، لتصبح القراءة فعلًا قابلًا للتحقق ماديًا وعمليًا دون الحاجة لمصدر دخل ومستوى ثقافي معين، ودون الحاجة لإضاعة الوقت في البحث عن مكان لشراء الكتب، فالكتب تحاوطك في طريقك من وإلى العمل والخيار لك.


ختامًا، يحتوي عالم الأدب الكوري على سحر يميزه عن أدب أي دولة أخرى، وقد أدركت ذلك بمجرد تعرفي عليه. فتتماهى به حدود البساطة والعمق فيه، وتجده معبرًا عن أدق التفاصيل والمشاعر اليومية بواقعية شديدة دون الميل للإسهاب في الوصف أو التعبيرات البلاغية الغير ضرورية. تُحكى جميع القصص كما يجب أن تُقال، بدون رغبة في المثالية أو التجميل. فجوهر الفن الكوري بوجه عام هو عدم التكلف والطبيعية، فمن أشهر مصطلحات الفن الكوري هي 'سوباك مي' أي الجمال الكامن في البساطة. ومثلما أثر على الفنون التشكيلية والعمارة، يظهر أثره واضحًا على الأعمال الأدبية أيضًا.
كي ووردز:
الأدب الكوري، الثقافة الكورية، مكتبات ستارفيلد، مكتبات كيوبو، مكتبات علاء الدين، هان كانغ، بايك أون سون، إي هي جو، جورج أورويل، كوريا نت، جمهورية كوريا
How about this article?
- Like2
- Support0
- Amazing0
- Sad0
- Curious0
- Insightful0